الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي | جنسانيّة الجسد (4/5)

Yves Klein and Artists Rights Society (ARS)

 

تستكمل هذه المقالة البحث في واقع معاناة النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي ضمن منظور جندريّ، استكمالًا لسلسلة المقالات الّتي تتناول واقع النساء المصابات بسرطان الثدي استنادًا إلى كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).

أبحث في هذه المقالة علاقة النساء بذواتهنّ وعلاقة الآخرين مع أجسادهنّ بوصفها علاقة مجندرة، أي أنّها مرتبطة بالنظم والمثل الثقافيّة والصور والتوقّعات المجتمعيّة عن ’الأنوثة‘، وإذ يجري خلق هذه التصوّرات مجتمعيًّا، فإنّه يجري تسويغها وشرعنتها عبر بعدها البيولوجيّ ’ذكر، أنثى‘.

 


 

تشير جوديث بتلر إلى أنّ سيمون دو بوفوار حينما تتحدّث عن أنّ المرأة فكرة تاريخيّة وليست واقعة طبيعيّة، فإنّها تشدّد على التمييز بين الجنس بوصفه واقعة بيولوجيّة، والجندر بوصفه التأويل أو الاستدلال الثقافيّ لتلك الواقعة، أي أن تكون أنثى بهذا المعنى واقعة لا معنى لها، أمّا أن تكون امرأة فيعني امتثال جسدها  لفكرة تاريخيّة هي فكرة ’المرأة‘، كبناء ثقافيّ، وأن تفعل ذلك بوصفه مشروعًا جسمانيًّا مستدامًا ومكرّرًا[1].

يوضّح عبد الله زهيّة كيف أنّ الأنثويّ يتمظهر على أرض الجسد من خلال ’الجمال‘، وتتجلّى أبعاده في منظومة المفاهيم وآليّات الأفكار، ذلك أنّ الأنثى في المجتمع هي الجميلة، الفاتنة،  العاطفيّة[2]، وإذا كانت المرأة هي الجميلة والعاطفيّة والزوجة المثاليّة، فإنّ هذه الأبعاد ترتبط بمعايير موجودة في الجسد المادّيّ، وأيّ اعتلال بمادّيّة هذا الجسد يقود المرأة إلى الإقصاء والتهميش، وبتعبير بتلر فإنّ أولئك الّذين يخفقون في صنع جندرهم على الوجه الصحيح لا ينفكّون يعاقبون بالفعل[3].

الأنثويّ يتمظهر على أرض الجسد من خلال ’الجمال‘، وتتجلّى أبعاده في منظومة المفاهيم وآليّات الأفكار، ذلك أنّ الأنثى في المجتمع هي الجميلة، الفاتنة،  العاطفيّة...

إذ نتحدّث عن النساء المصابات بسرطان الثدي، ندرك معايير الفقدان المرتبطة بهذا المرض والّتي تتجلّى من خلال معيارين رئيسيّين، وهما فقدان أو احتماليّة فقدان الثدي ثمّ تساقط الشعر، وبهذا فإنّ السؤال الّذي نطرحه ما الجندر الّذي تنتمي إليه هؤلاء النساء؟ "عن أيّ جسد نتكلّم".

تعتقد جويس ماكدونال أنّ العلاج المصاحب للتشويه الّذي يفرضه سرطان الثدي يؤدّي دائمًا إلى درجة عالية من المعاناة النفسيّة لدى النساء المصابات به؛ فالمرأة قد تشعر بفقدان إحساسها بتكاملها الجسديّ واختلال في صورة ذاتها، كما في شعورها بهويّتها. فمع فقدان الثدي يتكوّن إحساس بأنّ الرمز الأساسيّ للأنوثة قد دُمِّرَ، وتستعين بقول إحدى مريضاتها بعد استئصال ثديها ورحمها: "أنا لم أعد امرأة حقيقيّة، هل ما زلت شخصًا؟"[4].

أقرأ هذه التصوّرات الّتي تطبّق على الأجساد في محاولة لتفكيكها من خلال جانبين، الأوّل هو استدخال هذه التصوّرات إلى ذوات النساء، والّتي يترتّب عليها الكيفيّة الّتي تمارس بها هؤلاء النساء هويّاتهنّ الجندريّة، كهويّات ’مبتورة‘ عبر ممارسة الرقابة الطوعيّة على الذوات، من خلال استدخال السلطة المجتمعيّة الّتي تبلور مفهوم الأنوثة وفق معايير مرتبطة بالحيّز الفيزيائيّ للجسد ’المادّيّ‘. يترتّب على ذلك إعادة إنتاج الواقعات تحت عنف التصوّرات لهويّاتهنّ الجندريّة بوصفها هويّات مرتبطة بتجلّيّاتها المادّيّة، فتتحوّل النساء من ضحايا إلى مشاركات في توليد الاضطهاد الّذي يتعرّضن له.

أمّا الجانب الثاني فيتعلّق بالتصوّرات الّتي يعكسها الأفراد على أجساد النساء الفيزيائيّة، ككيان مهمّ ظاهر للعيان تمارس عليه تقنيّات السلطة، وهي السلطة الّتي تتحقّق من خلال ثقافة والمؤسّسات بحسب ميشيل فوكو.

 

استدخال الجندر: الرقابة على الذات

أحلّل من خلال روايات النساء المصابات بسرطان الثدي كيف تحدّثت النساء عن فقدان أو احتماليّة فقدان الثدي وتساقط الشعر، مدّعية أنّ المعيار الهويّاتيّ لجندريّتهنّ قد بدا مستدخلًا لدرجة أنّه أصبح مركّبًا مهمًّا من مركّبات هويّتهنّ لا يمكن أن يتصوّرن أنفسهنّ دونه إلّا بالمعاناة.

رواية واحدة من بين روايات اللّواتي قوبِلْنَ وهي رواية رانيا ’ن‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، تحدّثت عن إدراك لمعياريّ الهويّة الجندريّة للنساء المصابات بسرطان الثدي ، فقالت:

"بالنسبة للمجتمع، الثدي والشعر أساسيّان لأنوثة المرأة، رغم عدم اعتباري لهما، لكن للأسف، نحن نواجه الناس من حولنا ينظرون للمرأة جسديًّا وشكليًّا فقط. كنت أُسْألُ كثيرًا: هل وضعت رموشًا اصطناعيّة؟ هل رسمت حواجبك؟ هل استأصلت الثدي؟ جمال المرأة لا يتعلّق بالثدي والشعر، لكنّنا استدخلنا أفكار الناس إلى دواخلنا، فيقولون مسكين زوج تلك لفقدانها لثديها، فهل يمكن ألّا يكون جسدي جسد امرأة إذا ما استُئصِلَ الثدي؟"[5].

في ما جاءت الروايات الأخرى لتتحدّث عن اللحظات الّتي عاشتها هؤلاء النساء ترقّبًا لفقدان الثدي، هناء ’س‘، أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزّة، تعبّر عن ذلك بالقول: "من الصعب استئصال الثدي، أنوثة المرأة، جمالها، لمّا تفقدوا المرأة بكون صعب عليها، أنا بخجل أخرج من البيت، يعني لمّا حفيدي يقعد في حضني بحكيلي ليش يا ستي هان فش إشي عندك....بزعل... يعني جزء بارز من الجمال اختفى، وكمان شعرها وحواجبها، صعب والله صعب لما يروحوا". غزّة، شباط (فبراير) 2021.

الخوف من فقدان الثدي كان أشدّ وطأة على النساء من مرض السرطان، يزداد ذلك أهمّيّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ السرطان في الثقافة المحلّيّة هو مرادف لـ ’الموت‘...

تتحدّث آمنة ’ط‘، أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزة، عن زاوية أخرى نابعة من الخوف، الخوف من فقدان الثدي أكثر من المرض نفسه، قائلة: "هذا أكثر شي كنت خايفة منه، مع إنّه عملت عمليّات كتير فتح بطن، بس الاستئصال كتير خوّفني، ما تخيّلت حالي بدون ثدي، لأنّه ضلّيت احكي كيف بدي اضل بدون ثدي، كنت خايفه منّو أكثر من مرض السرطان". غزّة، شباط (فبراير) 2021.

بينما تروي نجاح ’م‘، أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزة، كيف كانت إصابتها بالسرطان أقلّ وطأة عليها من استئصال الثدي، فالفكرة لم تكن ولن تكون مقبولة لها، تقول: "كنت رافضة تمامًا إجراء أيّ عمليّة استئصال، تقبّلت إصابتي بالسرطان ولم أتقبّل استئصال الثدي... في يوم العمليّة انهرت تمامًا، وصاروا كلّهم بالغرفة يهدّوا فيّا، واجى أخي وقتها هو وأختي وكنت منهارة تمامًا... لمّا طلعت من العمليّة ما كنت صاحية تمامًا وكانوا أخواتي وأبناءهم يحاولوا يثبّتوني بالسرير وأنا أحاول أهرب من المستشفى وما كنت لسّه حاسّة بوجع العمليّة، كنت لسّه طالع من العمليّة"[6].

في حين تقول المشاركة رائدة ’و‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة: "أعاني من سبع سنوات من استئصال الثدي، وهيضل ملازمني لآخر يوم بحياتي، صعب كتير، لما بروح أتحمّم وأشوف حالي، يعني بحبّ دايمًا أكون بأحسن مظهر، حتّى الآن ما حدا في البيت، لا زوجي، ولا ولادي، ولا زوجة ابني، بخلّيهم ينتبهوا إنّي بثدي واحد، فورًا لمّا بصحى من النوم بحطّ الثدي الصناعي، صار معي ’اكتئاب‘ ما أنام أبدًا، زوجي جابلي منوّم 3 أنواع آخد كلّ يوم نوع وبرضو فشّ نوم، يفتحوا قرآن يعملولي كل اشي برضو فشّ نوم، أسبوع كامل وأنا ما بنام، وأضلّ أبكي كلّ ما حدا يكلّمني خايفة، كان الجوّ شتا وغيوم لحتّى الآن بحبّش جوّ الشتا بخاف منه"[7].

 

الجسد ’الناقص‘ اجتماعيًّا

يظهر في الحالات أعلاه أنّ الخوف من فقدان الثدي كان أشدّ وطأة على النساء من مرض السرطان، يزداد ذلك أهمّيّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ السرطان في الثقافة المحلّيّة هو مرادف لـ ’الموت‘، فأن تخاف من الفقدان أكثر من المرض نفسه الّذي يعدّ ’إمبراطور المرض‘، فذلك يدلّل على قوّة المعيار الّذي يتشكل داخل هؤلاء النساء والذي يبلغ أوجه في لحظات الترقّب الّتي تعيشها النساء لحظة انتظار خطّة علاجهنّ. قد لا تنتبه المرأة في حياتها العاديّة واليوميّة لمثل هذا الفقدان، لكن مع ظهور احتماليّة وقوع هذا الفقدان تزداد حالة الهوس والتوجّس، ويصل الخوف إلى ذروته عند استدماجه في تلك الذوات فتتحوّل المرأة إلى رقيبة على ذاتها، منتقصة من ذاتها وفقًا لمعايير ’الأنوثة‘ المعرّفة مجتمعيًّا بطريقة أيديولوجيّة مذوّبة.

في ذات السياق جاءت رواية المشاركات الأخريات ليتحدّثن عن المعيار الآخر وهو فقدان الشعر، وقد ظهر أنّ تساقط الشعر قد ارتبط بكونه فقدانًا مرتبطًا بجماليّة ’الجسد الأنثويّ‘ في الثقافة المجتمعيّة، وفي الجانب الآخر بمادّيّة المرض، بمعنى أنّ تساقط الشعر شكّل اللحظات الأولى لاستشعار هؤلاء النساء ومحيطهنّ إصابتهنّ بالسرطان.

تعبّر المشاركة سمر ’ح‘،  الّتي توفّيت والدتها بالسرطان عام 2009، عن تأثّر والدتها بتساقط شعرها بالقول: "كنت أشعر أكثر اشي مؤلم لإمّي الله يرحمها سقوط شعرها، كان طويل وكثيف وأسود داكن، كانت تشوف حالها بشعرها"[8].

أمّا أنصاف ’ص‘، والّتي أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزّة، تتحدّث عن حالة الخوف الّتي أصابتها جرّاء رؤية نفسها وقد تساقط شعرها، بعد انفصالها عن زوجها بسبب إصابتها بالمرض فتقول: "من أوّل جرعة شعري بلّش يتساقط على مراحل، مثلًا أنام ع المخدّة ألاقي شعري خصل، خصل بتتساقط على المخدّة، أمّا عن مشاعري كنت عارفة إنّو شعري رح يوقع ومهيّأة نفسيتي، صراحة الموضوع بخوّف، هذا جمالي، أنوثتي، اشي بخوّف"[9].

تأتي المشاركة أميرة ’م‘، وقد أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، على رواية الخوف من فقدان الشعر، قائلة: "سألتهم أوّل جلسة كيماويّ اليوم بسقط شعري، قالولي لا، بعد الجلسة الثانية، هو بحكي هيك وأنا ببكي، أنا شعري طويل وجميل، أنا بحبّ شعري، كيف بدو يسقط، هاي المأساة... قالولي الشعر برجع، بس الصحّة ما بترجع إذا انت أهملت الكيماوي، فترة وبتنتهي، وشعرك لمّا ينمو برجع أجمل من الأوّل.. ولازم تكوني قوية عشان ولادك، بعد الجلسة الثانية، كانت كلّ بصيلة من رأسي توجعني، الاشي اللّي بكيت خوف عليه، صرت بدّي أتخلّص منّو، أختي كوافيرة، بعتت وراها، تقصّلي شعري، وهي بتقص شعري، شعري بتساقط من الجذور، وهي بتبكي، ولمّا راح شعري، ارتحت، ارتحت... الشعر برجع، ونمو متجدّد، ولكن الثدي ما برجع"[10].

ما توضّحه هذه الرواية هو الألم الّذي يتغلّب على قوّة المعيار المذوّب في دواخل هؤلاء، ذلك أنّه حتّى مع القيمة القصوى الّتي يكتسبها المعيار هنا، إلّا أنّ تغلّب الألم عليه قادر على خلق رغبة شديدة في التخلّص منه، والتخلّص هنا لا يكون رغبة في التخلّص من ذات المعيار، بل من الألم الّذي يُلْحِقُهُ هذا المعيار بالجسد، والتخلّص من الألم بالضرورة مرتبط بالتخلّص من المعيار.

 

تجسيد الجندر: الرقابة على الجسد

جاءت بعض الروايات على تحليل أثر المعيارين في الحياة في سياق ارتباطهما بالزوج، لقد تحدّثت جويس ماكدوجال عن تأثير هذا الفقدان بالقول: "تشعر المريضة أنّ حياتها الجنسيّة مهدّدة، وأنّ فقدان ثديها سيكون له تأثيرات حتميّة على علاقتها بزوجها، كذلك فإنّ المخاوف وأشكال الكبت المحيطة بالعلاقات الجنسيّة وعلاقات الحبّ الّتي كانت المريضة تشعر بها في الماضي، تميل إلى الظهور مرّة أخرى بعد الاستئصال. كما من المتوقّع أن يشعر الزوج بقلق حين يواجه بمرض وتشوّه زوجته، كما يلوح شبح الموت بالنسبة له، هذه العوامل مجتمعة قد تؤثّر سلبًا على الطرفين"[11].

تأتي رواية عايدة ’ع‘، الّتي  أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، في سياق حديثها عن آثار هذا الفقدان، فتقول: "استئصال الثدي مشكلة كبيرة، هو جزء من أنوثة المرأة، لمّا يروح جزء من أنوثتها بتشعر في نقص في حياتها، كمان الرجل لمّا ينقص من المرأة جزء كالثدي بتتغيّر حياته معها، وبصراحة الثدي بالنسبة للرجل جزء من حياته الجنسيّة...استئصال الكتلة ممكن الزوج يتقبل ذلك، كتلة وعمليّة وممكن تشوّهات، ممكن يتقبّل، ولكن إذا تم إزالة الثدي ممكن يصير مشاكل بينهم، مثلًا مكن يقول لو كانت مستأصلة الثدي قبل ما أتزوجها أنا ما باخذها، في واحدة قالتلي من النساء اللّي كانوا يتعالجوا معي، زوجها قالها: إنت لو كنت مستأصلة الثدي قبل الزواج أنا ما بتزوجك... ومن الممكن أن يسألها أحد سؤال بحسن نيّة، عادي، هي تجرح، الناس ممكن يقولوا أمام زوجها، مسكين زوجته إستأصلت الثدي، طيب هو إذا بكون مقتنع بصير غير مقتنع، وممكن يبلّش يفكر في الزواج من امرأة أخرى"[12].

تختزل تصوّرات الذوات والأفراد الجسد الأنثويّ في مظهره الخارجيّ عبر مجموع المعايير الّتي ما تنفكّ تلك الذوات ومحيطهنّ في الحفاظ عليها. يحدث الخلل عندما تتعرّض إحدى هذه المعايير للفقدان كما في حالة الإصابة بسرطان الثدي...

الرواية الأخرى جاءت على تفصيل الكيفيّة الّتي ينظر بها إلى الثدي بوصفه ’قطعة‘، لكنّها ’قطعة‘ مهمّة بالنسبة للرجل، كما قالت المشاركة سعاد ’ع‘، الّتي أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزة: "بالنسبة للرجل هذا تشوّه، شالت ثديها من جسمها، هاي مصيبة، كأنّها أصبحت ناقصة، وهو ما بدّو امرأة ناقصة قطعة من الجسد، وقطعة مهمّة بالنسبة لهم"[13].

حلّل عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو التصوّرات والاستعدادات الّتي يكتسبها الفرد ويعيد توليدها في ذاته ويعكسها على محيطه من خلال ما أطلق عليه مفهوم ’الهابيتوس‘، والّذي عنى فيه الميول والاتّجاهات والمواقف المتعلّقة بالتفكير، يمارسها الأفراد بطريقة لا شعوريّة، وتُنْتَجُ في بيئة اجتماعيّة محدّدة، ويعاد إنتاج هذه البيئة من خلال قدرة الهابيتوس على التوليد[14]. يتّضح لنا من خلال رواية المشاركات في الدراسة كيف تختزل تصوّرات الذوات والأفراد الجسد الأنثويّ في مظهره الخارجيّ عبر مجموع المعايير الّتي ما تنفكّ تلك الذوات ومحيطهنّ في الحفاظ عليها. يحدث الخلل عندما تتعرّض إحدى هذه المعايير للفقدان أو احتماليّة الفقدان كما في حالة الإصابة بسرطان الثدي، في تلك اللحظة تبدأ تلك التصورّات بعكس نفسها  كعنف رمزيّ تمارسه النساء على ذواتهنّ، ويمارسه الآخرون عليهنّ، في ما يعامل الجسد في الحالتين كجسد ’منقوص‘  و’مبتور‘ و’غير حقيقيّ‘، وهذا الاختلال يعني بالضرورة خلق حالة من الإقصاء والتهميش.

ثمّة ضرورة أن تخلق الذات التحرّريّة، والّتي أقصد بها خروج المرأة من الأدوار المحبوسة داخلها، والّتي تعرّف من خلالها هويّتها الجندريّة ويعرّفها المجتمع من خلالها في حالة الإصابة بسرطان الثدي. فمن شأن ذلك أن يحرّرها من عنف تولّده ذاتيًّا ويمارسه المجتمع ضدّها بوصفها امرأة "غير مكتملة الأنوثة".  على الرغم من ذلك، فإنّني أتّفق ميلاني كلاين على أهمّيّة هذه الأدوار في تشكيل الهويّة الأنثويّة، لكن أعتقد أنّ هذه الأهمّيّة قد يكون عنفها "أقلّ ضررًا" في حالة النساء غير المصابات، واللّواتي لا يتوجّسن من احتماليّة فقدان إحدى معايير الهويّة الجندريّة الّتي تبلغ ذروتها عند النساء المصابات بسرطان الثدي. ذلك يعني بالضروة أن تعيد المرأة تشكيل جسدها في حالة الإصابة بسرطان الثدي بما ينزع عنها المشروع الجسمانيّ المختزل في أدوار جسدها في حياتها اليوميّة ’الطبيعيّة‘ عبر تلك التصوّرات المجتمعيّة.

 


إحالات

[1] بتلر، جوديث. «الأفعال الأدائيّة وتكوين الجندر: مقالة في الظاهراتيّة والنظريّة النسويّة». مجلّة عمران.، العدد 25، (2018). ص131.

[2] عبد الله، زهيّة. «الجمال والجسد الأنثويّ: التمثّلات والممارسات». مجلّة إنسانيّات: المجلة الجزائريّة في الأنثربولوجيا والعلوم الاجتماعيّة، العدد 29-30 (2015). ص1-10.

[3] بتلر، جوديث. مصدر سابق.

[4] ماكدوجال، جويس. النساء والتحليل النفسيّ. ترجمة عايدة سيف الدين. في سلسة ترجمات نسويّة (مصر، مؤسّسة المرأة والذاكرة، 2016)، ص135.

[5] رانيا ’ن‘. أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[6] نجاح ’م‘. أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزّة. غزّة شباط (فبراير) 2021.

[7] رائدة ’و‘. أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[8] سمر ’ح‘. توفّيت والدتها بسرطان الثدي. رام الله، شباط (فبراير) 2021.

[9] إنصاف ’ص‘. أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزّة. غزّة، شباط (فبراير) 2021.

[10] أميرة ’م‘. أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[11] ماكدوجال، مصدر سابق، ص135.

[12] عايدة ’ع‘.  أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[13] سعاد ’ع‘. أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزّة. غزّة، شباط (فبراير) 2021.  

[14] عبد العظيم، حسني. «الجسد والطبقة ورأس المال الثقافيّ: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو»، المجلّة العربيّة لعلم الاجتماع (إضافات)، العدد 15، (2011).

 


 

نور بدر

 

 

مرشّحة دكتوراه في «جامعة تونس» في «كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة»، تعمل على أطروحة تتناول سوسيولوجيا الحكم العسكريّ الإسرائيليّ على الأجساد الفلسطينيّة ومقاومتها. صَدَر لها كتاب بعنوان: «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).